عمــــــود صحــــفي للجمــــــــــــــــــيع فقـــــــــــــــــــــــط
-----------------------------------------
الشارح المبين في حركات المغتربين..! / منى ابوزيد
------------------------------------------------
«فقد الأحبة غربة».. علي بن أبي طالب!
أعظم أطباء الباطنية خبرةً ومراساً لم ينجحوا في خلق تشبيه دقيق لآلام الذبحة الصدرية إلى أن شهد شاهد من أهلهم.. عندما داهمت الذبحة اختصاصياً منهم فوصف انقضاضها على القلب بأنه كقبضة نسر له مخالب من حديد.. يا ترى بماذا يمكن أن يشبه المغترب آلام الغربة..؟!
إن كان لي من هاجس في شؤون العمل العام يمتزج فيه الرسمي بالشخصي والخاص بالعام فهو (حال المغترب) وصروف علاقته الشخصية والرسمية بالوطن.. ووجوه مواقف ذلك الوطن من تلك العلاقة حكومةً وشعباً..!
تضاريس ومناخات تلك العلاقة المعقدة ظلت هاجسي الأكبر وموضع رصدي وتحليلي طوال عمري.. ومنذ طفولتي التي كنت أعود فيها إلى البلد في فترات مُتباعدة لأرصد مظاهر الاعتداد والازدراء الذي كان يغلف سلوك أقراني نحو بؤس أطفال المغتربين المتسربل بمظاهر الراحة.. ومسكنتهم وطيارتهم المتلفعة بالثرثرة.. وابتساماتهم واقتحاماتهم التي كانت تستجدي ود أقرانهم الساخرين وتتسول رضاءهم..!
مروراً بوقوفهم على أعتاب الأنوثة.. فأبواب الجامعة التي يواجهون فيها تصنيفاً وإقصاءً من نوع آخر.. وعلاقة جدلية من لون آخر.. بين القادم المنبوذ لأنه يتعامل بمعطيات مجتمعات أخرى.. وسيد المكان المستنكر لاختلاف الوافد المغترب ابن المغترب..!
فكنت من منطلق المسكنة والطيارة ذاتها أراها كعلاقة العين بالقذى.. وكعلاقة الأحكام المسبقة بالدفوع التي تقوض من عدالتها.. علاقة جذابة في قسوتها.. وفاتنة في حدتها.. وواعدة في حراكها العاطفي المتقلب.. الذي يأخذ ديناميكيته من طبيعة المرحلة العمرية.. وحماسها.. واندفاعها الثوري الذي لا يعبأ بالخَزَف..!
وبحلول النضج الفكري والاجتماعي والانتقال من خانة الفردية والرومانسية العاطلة إلى مربع الزواج والأسرة والواقعية المثمرة.. جاءت (الغربة المركبة).. واستمرت دوافع وموجبات البقاء خارج الوطن.. كفاعل أصيل وصاحب خيار ورب أسرة ـ هذه المرة ـ وليس كشخص ولد ليجد نفسه فرداً ـ لا حول له أو قرار ـ في أسرة مغتربة..!
بعد كل هذه السنوات.. والخبرة.. والكم الهائل من لحظات المعايشة.. والرصد.. والتحليل.. والتفنيد.. وبعد أن داهمتني ذبحة الغربة المركبة بعد أنْ لاح شبح الترحال إليها من جديد ...
لا أجد لها وصفاً أبلغ من «حراق الروح»!.. حالة برزخية.. (تأقيت) دائم.. تأجيل مستمر.. وانتظار متململ لأجل قريب من القلب.. بعيد بحسابات العقل.. المغترب البعيد عن وطنه حتى وإن كان يعيش في قصور معلقة ونعيم مقيم، هو في النهاية محروم وإن كابر.. فقير وإن كان ثمن غربته عشرات البيوت والأرصدة.. يتيم وإن كان له في غربته ألف أب..!
هذا إن كان (مُرتاحاً مادياً) والغربة خياره الذي يملك.. وهذا أمرٌ نادر الحدوث بالطبع.. أما المغترب (النمطي) الفقير مادياً فهو تعيس لأنه لا يملك الخيار.. حزين ومكسور طوال الوقت لأن غربته مشكلة لا حلول لها.. لذلك تجده دوماً مريضاً بلا مرض.. يؤلمه شعره.. توجعه أظافره..!
بعد كل هذا.. هل يلام من كان يعيش في حالة (حراق روح) دائمة إذا عاد إلى الوطن وأخذ يثرثر بسعادة عن رائحة الدعاش وزخات (المطرة).. وطعم الفول بزيت السمسم.. و(لمّة الأهل).. هل يُلام إذا داهمته أحياناً نوبات بكاء مفاجئة لا يوجد ما يبررها؟!.. هل يؤاخذ إذا أمسكت بتلابيبه حالة (أم فريحانة) في عز (الزهج) الذي يعلو وجوه من حوله من (القاعدين) في البلد الحبيب..؟!
أعرف جيداً أنّ (حركات المغتربين) هذه ترفع معدّلات ضغط وكثافة الكثيرين من أهل البلد.. إنّما حاولوا أن تفهموهم.. لأنّهم ـ يا جماعة ـ مساكين.. وبائسين ليس إلاّ..!
صدقوهم وتعاطفوا مع بؤسهم عوضاً عن السخرية من اختلافهم.. ولا تنسوا أنهم ـ في نهاية الأمر ـ (بعض أهلكم) الذين لا يستحقون أن تطول غربتهم، وإن كانوا يشبهونها..!