حـــــــــــــــــــــــكاية عــــــصـــام
----------------------------
التلميذ النابغة عصام كِرشْ، ضحية التعليم الصفوي
----------------------------------------
قصة حقيقة جرت أحداثها في أوئل سـبعينيات القرن الماضى، في مدرستي، البندر الابتدائية، في مدينة ودمدني بطلها وضحيتها تلميذ نابغة وفذ وصغير إسمه عصام ولا يزال يعيش إلى اليوم في نفس المدينة، ودمدني. كان عصام، التلميذ الصغير، وقتها في الصف الخامس وأقدر عمره آنذاك بإثنتي عشر من الأعوام. كان تلميذاً نجيباً ذكياً متعدد المواهب، خطاطاً ورساماً، يتفوق علينا كلنا في جميع الألعاب الرياضية الطفولية وخصوصاً لعبة البلّي. لا يُشق له غبار في إستعمال النبلة وتسلق شجرة النْيم الفارعة في ناصية المدرسة، يحفظ ويُبدع في الصدح برائعات المدائح النبوية الشريفة ولا يجاريه أحد في تقليد الفنانين. توفي والده في حادث حركة في طريق بورتسودان كسلا أثناء تأدية عمله كسائقاً بإحدى كبرى شركات النقل في السودان آنذك. تبدلت حياة الطفل في بداية السنة الخامسة بعد زواج والدته من أحد أقرباء والده وكان الزوج الجديد يملك مطعماً في موقف البصات في السوق الجديد. كان على عصام أن يغادر البيت قبل الفجر، برفقة زوج أمه في اللاندروفر المُكشب، ويذهب معه للسلخانة لشراء إحتياجات المطعم ومن هناك إلى المطعم ليقوم المسكين بتقطيع البصل والإسهام في غسل الكمونية والمساعدة في تجهيز الحلل قبل طبخها ثم يركب البص من السوق الجديد، خط المزاد، لينزل في محطة مركز الشباب على بعد نصف كيلو متر من المدرسة والتي غالباً ما يصلها مهرولاً أو جارياً. مأساة عصام الحقيقية لم تكن في بيته الذي تغير حاله بعد وفاة والده ولم تكن في عمله الذي يبدأه قبل الفجر ثم يذهب بعده للمدرسة فعلى الأقل كان يعيش في كنف أمه وأب بالإنتساب يوفران له جو أسرى لا يحظى به الكثيرين من الأطفال وقد يكون الأوفر حظاً حيث أنه يحصل على مصروفاً يومياً كبيراً نسبياً، هذا غير أجرة البص التي لا يتراخى زوج أمه في دفعها ثم يعود بعد المدرسة إلى المطعم... بل كانت مأساته الحقيقية في المدرسة التي غالباً ما يصلها متأخراً بعد جرس الطابور وكثيراً ما يصلها بعد دخلونا للفصل. كان عم إبراهيم الخفير الأكثر إنزعاجاً وتضرراً من ذكاء عصام، فبعد قفل الباب الخارجي، وهو المدخل الوحيد للمدرسة، كان عصام المتأخر يستطيع فتح الترباس الداخلي بأصبعه أو بقلم أو غصن شجرة جاف ليدخل ثم يهرول إلى الفصل، وحتى لو أضطر لتسلق السور الى داخل المدرسة كان يجرى إلى الباب الرئيسي ويفتح الترباس وبذلك يدعى أن الباب كان مفتوح فذلك أهون وأخف ضرراً من قفز السور الذى كان يعتبر قمة الإجرام والصعلكة. كان المسكين يتعرض لأقسى أنواع الإهانة والضرب والإضطهاد ليس بسـبب التأخر عند مواعيد المدرسة الرسمية فحسـب بل بسبب خدمته في مطعم أهله.
كان أستاذ معاوية، و هذا إسم حركي غير حقيقي، سمّيته كذلك لأنه كان دائماً يذكرنا بأن الذي بيننا وبينه هو شعرة معاوية بن أبى سـفيان، وقال أنه سيرخيها ويشدها حسب الذي بيننا و بينه ولكن، والله على ما أقول شهيد، كانت الشعرة مشدودة شدّ الحبل في العنقريب، ولم تكن مرخية أبداً، يظعط ويمعط، يكفت ويجلد ويشلت دون رحمة أو وازع. كان شديد الحماقة، لديه بواظان أعصاب دائم لم نعرف أسبابه يجعلنا نعيش حالة من الرعب الحقيقي بمجرد إقتراب موعد حصته ناهيك عن دخوله الفصل. كان لايحب الشرامة أو الشماسة كما يسميهم ولديه قائمة سوداء محدودة ومعروفة مدرج فيها أسماء التلاميذ المساكين الذين يقع عليهم هذا التصنيف. بمجرد دخوله الفصل يبدأ بمسح تكتيكى سريع لمواقع الشرامة ليتأكد من حضورهم، فالويل لمن غاب أوتأخر منهم، ولكنهم جميعاً كانوا حريصون على الحضور والهدوء التام أثناء حصته، وبعد ذلك يواصل التمام على بقيه الفصل. يفتتح حصته بالتنكيد علي بعض تلاميذ القائمة السوداء المنكوبين، ثم يأتي بكراستنا التي جمعها لتصحيح الواجب المنزلي فيضع كراسات البلداء (جمع بليد) على جانب و يبدأ بها كذريعة للتنكيد عليهم. كان يعلنها دائمأ أنه لايحب البلداء والويل ثم الويل لمن وجدت على كراسته بقعة زيت أو حبر أو تغليف بالجلاد غير منمق. حقيقة أن الشراما كانوا هم البلداء عدا عصام الذي كان يصنف شرامياً ولكنه غير بليد على الإطلاق. البلادة كانت هى الأساس لتأهيل التلميذ ولإدراج إسمه في قائمة أستاذ معاوية وكانت هي المدخل الرئيسي لعالم الشرمنة أوالتشرم إن صح التعبير، فضغف الأداء الأكاديمي يعنى في مفهوم أستاذ معاوية أن المصير الحتمي للتلميذ والخيار الأوحد أن يكون شرامياً أوصعلوكاً وما شابه ذلك. أما عصام فقد تم أدراجه وأدخل إلى القائمة السوداء بصورة إستثنائية وبغير التصنيف الأكاديمي والسبب الرئيسي هو رائحته الكريهة التى يفوح منها البصل والكمونية ثم التأخير عن جرس الطابور أوالغياب في بعض المرات دون مبررات تكون مقبولة لأستاذ معاوية. كان الأستاذ يناديه بعصام عَفَنَة ثم تغير الإسم إلى عصام كِرش (جمع كرشة وهي معدة البهائم والمصارين). أطلق اللقب أحد التلاميذ وأعتقد أنه فعل ذلك شفقة منه على عصام من الإسم عَفَنَة، فتمت إجازة وقبول ذلك اللقب من قبل أستاذ معاوية ثم شاع إستعماله بين جميع التلاميذ والأساتذة وحتى الناظر وستات الفطور، فقط عم إبراهيم الخفير الذى إختلف مع الجمهور المدرسي وحافظ على تسمياته المتعددة كالشقي أوالمغير أوالجَنَا المسلط، وكان عم إبراهيم يتفرد بإختيار أحد هذه الأسماء ويطلقها على عصام حسب حالته المزاجية وعلى حسب الكفوة التى جاء بها عصام، ولكن هناك حادثة لا تنسى جعلت عمي إبراهيم الخفير، حوار الشيخ دفع الله المصوبن راجل أبحراز، يخرج من طوره ويكيل بجميع الأسامي في آن واحد وكان ذلك عندما تمكن عصام من كرة الشُرّاب وشاتها من مسافة لاتقل عن العشرة أمتار ليودعها في جوف زير الأساتذة.
قطع أستاذنا الأحمق عهداً على نفسه أمام الله وبحضورنا بأنه لا مكانة للشراما في تلك المدرسة ذات التاريخ الأكاديمي العريق والسمعة الممتازة. قال مخاطباً الشراما، بلغة التهديد والوعيد، أن الخيارين أمامهم إثنين لا ثالث لهما، فأما أن يكون الطالب ناجح، مهذب، مطيع، حسن المظهر والسلوك أو أن يكون مصيره الشوارع والتشرد والإصلاحيات. رغم قسوته في إيصال رسالته فقد كان معلماً لكثير من القيم كالإنضباط، الجدية، النظافة، التنظيم، الآداب العامة كعفة اللسان وطريقة تناول الطعام، وكان شديد العداوة لكل السلوكيات غير الأخلاقية ومنفراً عن كل الممارسات السيئة والغير سوية. كان حُسن السير والسلوك عند أستاذنا غير محدوداً بحدود المدرسة وكان يذكرنا دائماً بأنه يتابع سلوكيات كل تلميذ خارج المدرسة، وقد كان صارماً حد الصرامة في هذا الموضوع، وأذكر أنه أوقع عقوبات قاسية على أربعة من الطلاب، واحد من فصلنا و ثلاثة من طلاب الصف الرابع قبضهم بنفسه متلبسين بجريمة السباحة في البحر(النيل الأزرق) في عصر يوم الخميس.
كانت أسوأ أيام عصام في أثناء دراستنا في منتصف السنة السادسة، يوم أن تم وضعه على رأس القائمة السوداء للتلاميذ غير النافعين بحسب المعايير والتعابير المستعملة في حقل التعليم في ذلك الوقت. جاء المسكين صباح ذلك اليوم متأخراً جداً وتقريبًا في منتصف الحصة الأولى، وكانت لأستاذ آخر غير أستاذ معاوية أبوفصلنا. نجح عصام في القفز فوق سور المدرسة رغم الرقابة المكثفة وكان قد تم تسجيله غائب. إستغل إنشغال الأستاذ بالكتابة على السبورة فقفز من الشباك الخلفي وبرشاقة وخفة العصافير جلس في مقعده في منتصف الفصل. فضحته ضحكاتنا. إنقلبت المدرسة رأس على عقب لتلك الفعلة الشنيعة. رغم أن عصام كان حريصاً على حضور تلك الحصة بالذات والتي أعُلنت منذ اسبوع بأنها ستكون خاصة و فيها إمتحان تجريبي مشابه لإمتحان الشهادة الإبتدائية في اللغة العربية ولكن لم تقبل أعذاره! و بعد رفع الأمر إلى أبو فصلنا، أستاذ معاوية، والسيد الناظر جاء القرار بطرد عصام كِرش من المدرسة حتى يأتى بولي أمره.
لا أعرف ماذا حدث في ذلك الأمر! و لكن بعد عدة أيام رجع عصام كِرش إلى الفصل وكان الأمر عادي حتى جاءت حصة أستاذ معاوية فأخرج عصام وأوقفه أمام الفصل وسأله عما إذا كان راغباً في مواصلة تعليمه فأجاب بنعم، فسـأله الأسـتاذ لماذا هو حريص على العمل في المطعم؟ فأعترف عصام المسكين بأن زوج أمه قدم له إغراءآت كبيرة وأنه سـيكون المسؤل عن المطعم يوماً ما في المسـتقبل القريب لأن زوج أمه لديه أعمال أخرى منها كشك للمرطبات في مستشفي مدينة سنار ومخبز في مدينة الحاج عبد الله وفي كل من المدينتين له زوجة ولكل زوجة أولادها وبناتها، ومجموعهم في الأسرتين إحدى عشر، إضافة إلى الأسرة المضافة الجديدة، أسرة نعمات بت الحلاوين، أم عصام، والتى كانت أصغرهن سناَ، في نهاية العشرينيات، وأكثرهن جمالاً ولها إبنها البكر عصام وولدين وبنت. كان عصام قد سلب عقولنا باللورى الأوستن الذى صنعه من الصفيح فكان نموذج مصغر متقن، ولكن الإعجاب تضاعف مرات ومرات بعد أن عرفنا من إجاباته للأستاذ أنه هو المؤتمن على رقابة إثنين من العمال في الفترة من الفجر وحتى موعد ذهابه للمدرسة حين يعود زوج أمه من البيت ليتسلم المسئولية، فكان حضور عصام مبكراً أومتأخراً للمدرسة يعتمد إعتماداً كلياً على زوج أمه المتلكع.
حكى عصام عن خبرته المطعمية وبصوت جرسونى مُميز صوّر معرفته بجميع الأصناف التي تقدم، وقال أن الحاج عبد القادر (زوج أمه) يجلسه في كثير من الأوقات على تربيزة المبايعة ليحاسب الزبائن في الفترة ما بعد زحمة الغداء. تخلل السرد المسرحي، وبطريقه عصام الزكية، كثير من الضحكات وخصوصاً عندما سأله أستاذ معاوية عن بعض الألفاظ التى تستعمل من قبل الجرسونات والزبائن فقلدها عصام بمهارة فائقة فضحكنا وضحك الأستاذ نفسه فإرتحنا كثيراً وصدقنا أن الأمور قد إنتهت على خير وكان الشعور العام بأننا جميعنا سنتخلص من عقدة الذنب لأننا نحن زملائه كنا قد عجزنا عن التستر عليه يوم أن كانت ضحكاتنا هى السبب الرئيس والأوحد في كل الذي حدث لعصام. ولكن الطامة الكبرى كانت المفاجئة القاسية التى أعلنها الأستاذ بأن السيد كِرش يستحق عقوبة مقدارها خمسة وعشرين جلدة توزع بعدد خمسة جلدات و لمدة خمسة أيام متتالية لأن عصام كان من المفترض أن يذهب لمقابلة الناظر للإقرار بتأخره طالما كان حريصاً على حضور حصة الإمتحان التجريبي، وأن لا يتجرأ بدخول الفصل من الشُباك، فأنتدب الأستاذ أربعة من عتاولة الطلاب الكبار الجسم وأمسكوا الصغير النحيف كعصفورة في مخالب ثعلب وأشبعه أستاذنا المتشنج أكثر بكثير من الخمسة جلدات المتفق عليها، بحضور ولي أمره، كما أعلن ذلك الأستاذ بلسانه. إنكسر خاطر الصبي المهزوم وكانت هى المرة الأولى التى نراه يبكى فيها بكل الحرقة والألم البائن. كنت أعرف جيداً أن عصام لم يبكى للضربات الموجعة فقد كان صنديداً في هذا المضمار وكان يتباهى برجولته الصغيرونة اليانعة ويتفاخر بصبره على جلدات كثيرة لا تحصى ولا تعد أكلها من قبل وبسياط خاصة كان يتجلى الخفير الشامت، عمي إبراهيم، في إختيارها ويُسمى عليها سائلاً الله وبرجاء بركة الشيخ المصوبن أن تكون تلك السياط راجمة وحاسمة وتطفش الجن الكلكى الراكب عصام كِرش. ولكن في تلك المذبحة الإنسانية بكى عصام لأنه فقد والده الذى كان يتمنى أن يراه مهندساً عبقرياً وعصام كان جديراً بذلك... ولكنها الأقدار الحوالك التي سطرت غير ذلك... بكى عصام لأنه أفصح عن أسراره لأستاذ معاوية أمام جميع التلاميذ بل أضحكنا ببعض القفشات الفكاهية وأعتقد المسكين أن الأستاذ قد أصبح صديقاً يحسن الإستماع ويتفهم ظروفه الخاصة جداً ويكون هناك خياراً أفضل بديل للضرب المُذل وموال البصل والكمونية والكِرشْ... بكى عصام لأنه فقد المقدرة على فهم الدنيا الكبيرة التى ليست فيها غيمة صغيرة تظلل دنياه الأصغر... بكى عصام بكاء ممزوجة بالحرقة والإستغراب من الغتاتة المصاحبة للجلد، ولكن الصغير أبى أن يسكت على كرامته المهدرة فإنتفض وسأل الأستاذ، بصوت محشرج يغالبه النحيب المُبكى، لماذا جلده أكثر من الخمس جلدات المتفق عليها! فغضب معاوية! غصب غضبة كانت كافية لأن تقطع الشعرة التي بينه وبين تلميذه الذي لم يكن ضحية المعلم فحسب بل ضحية نظام تعليمي تربوي عاجز ومجتمع ساذج لا يدرك معنى التربية والتعليم كمفردات في حد ذاتهما أو كقضيتين متلازمتين، غضب أستاذ معاوية حتى تشنج وهو الذي لم يسبق أن تجرا عليه أحد من تلاميذه، وفي فزعة هستيرية أمسك الصبي من زراعه وجره إلى مكتب الناظر، فكانت تلك خاتمة المشاهد الدرامية وآخر عهد لعصام كِرش بفصلنا ومدرستنا والتعليم.
لم أشاهد ولكنني سمعت مع السامعين أن عصام كِرش جاء إلى المدرسة في نهايات العام الدراسي وطلب من الناظر أن يسجله في كشف الجالسين لإمتحانات الدخول للثانوية العامة، وفقط يحتاج لرقم جلوس، وسيدفع الرسوم كاملة، وأنه سيواصل دراسته للمنهج بطريقته الخاصة وسيذهب لمركز الإمتحانات بمفرده ودون رفقة طلاب مدرستنا كما جرت العادة. ولكن إدارة المدرسة رفضت الطلب. إحتج عصام. طُرد إلى خارج المدرسة، فعاد متسلقاً السور، و وقف فيه يكيل الألفاظ البذيئة النابية في حق أستاذ معاوية خاصة والناظر وبقية المدرسين عامة وأعفي من الكيل عم إبراهيم الخفير رغم أنه كان حاضراً ومتأهباً وحزيناً ومستغرباً لهذه الدراما التي لم يصدق أن فصولها تعرض في ساحة العلم التي هو حارسها ولكنه يقف عاجزاً لا يعرف ما هو دوره ولا حتى رأيه. شهد البعض أن عصام كان يرفق المنابيذ بإشارات لعضوه ولغة جسدية باليدين، سيئة الدلالات وقوية التعبير، وعندما تقدم أحد الأساتذة وهب لتسلق السور للقبض عليه قفز عصام وفّر هارباً بجلده الذى لم تبقى فيه بوصة واحدة لم تلامسها سياط التربية النافذة. فرّ ولم يعد ولم يلحق به أحد. فعرفنا من الحكاية أن النابغة المكافح عصام كِرش قد رمى الراية المزخرفة بأحلامه الموؤدة وأمنيات والده الراحل، وفعل ما فعل بعد أن فقد كل الحيل وقنع من خيراً فيها