عمــــــــــود صحــــــفي للجمــــــيع فقــــــط
------------------------------
أهلك قبال تهلك / د. عبداللطيف البوني
-----------------------------
حكى لي أحد الدهَّابَة (هل تحتاج لشرح؟) المتجولين على ولايات السودان المختلفة أنه عندما أراد الذهاب لمناطق الذهب أول مرة ذهب إلى الخرطوم بحري، تحديداً حلة كوكو، حيث كانت العربات البكاسي ذات الدفع الرباعي مصطفة للذاهبين إلى وادي العشار وكانوا يصيحون قائلين (ودع فقرك واركب) و(اسرع قبال الغنى يفوتك) و(اسرع اسرع حظك راجيك)، فما كان من صاحبنا تحت تأثير تلك النداءات المشجعة إلا أن قطع تردده ودفع السبعين جنيه وركب. وعندما وصل إلى هناك وجد ذات البكاسي مصطفة راجعة إلى بحري والكماسرة يصيحون (أهلَك أهلك قبال تَهلك)؛ فالمشتغلين بحركة النقل كل همهم منصب على الركوب وأخذ المقابل، ولكن مفارقتهم هذه تشير إلى واقع حقيقي وهو بُعد المسافة بين إغراءات الذهاب إلى مناطق التعدين الأهلي والمخاطر الموجودة هناك.
لقد أصبح الذهب اسم في حياتنا، ترك الناس له الزراعة والاغتراب والتجارة كلٌّ حسب رأسماله؛ فهناك من استثمر فيه عضلاته فقط، وهناك من استثمر فيه الملايين وهناك من كَبَّ فيه المليارات، أي كل حسب قدرته وطموحاته. والدولة من جانبها أراقت على مناجمه دم العملة السودانية حيث طبع بنك السودان الأوراق بدون مقابل لشراء أكبر كمية وبسعر الدولار في السوق الأسود ليعوض نقص العملة الصعبة في خزينة الدولة (لا أدري عما إذا كانت هذه السياسة سوف تستمر بعد أن جرى النفط في الأنبوب أم لا؟).
ليست هناك إحصاءات معتمدة تُوَضّح عدد الدهَّابة في السودان، فقد وقفت على تقديرات مختلفة أقلها مليون مواطن وأكثرها ثلاثة ملايين، وهذا يعني أنه ـ في كل الأحوال ـ أصبح نشاطاً اقتصادياً لا يمكن الاستهانة به بأي حالٍ من الأحوال، وله من الإيجابيات والسلبيات ما يستدعي تدخل الدولة لتنظيمه، وأن لا تكتفي بتدخل المحليات التي تُبَالغ أحياناً في فرض رسومها وجبايتها بحجة توفير الأمن والسلامة والصحة. لا بد من دراسة اقتصاديات الذهب دراسةً وافية، ولا بد من توجيهه نحو التنمية الشاملة لمناطق التعدين وللمشتغلين بالتعدين ومن ثم لكل السودان.
في بعض مناطق التنقيب (بالمناسبة هل توجد خريطة توضح كل مناطق التنقيب في السودان؟) المهم في بعض هذه المناطق توجد اليوم مشاكل حقيقية (خليك من جبل عامر فهذه قد وجدت حظها من الإعلام، ونتمنى أن تجد حظها من الحلول) فهناك تأثير كبير ومباشر على الرعي وتأثير غير مباشر على الزراعة، وهناك تدهور بيئي حقيقي لن يتوقف أثره على مناطق التعدين وحدها، وهناك مخاطر فردية تصيب المُعَدِّنيين من جراء استنشاق الزئبق وغازات أخرى. لقد نشأت مدن عشوائية يباع ويشترى فيها كل شيء، وأنا ما بفسر وانتَ ما تقَصِّر، وعلى حسب محدثي فإن الخطورة الحقيقية لذلك النشاط تظهر عندما تقل أو تنفد كمية الذهب في المنطقة التي عمرت بالدهابة فيحين أوان الرحيل، إذ يرتد الفقر بسرعة مذهلة ويصبح أثره أشد وأنكأ من الفقر الذي كان سائداً قبل التعدين.
وهنا لا بد من الإشادة بالغوص والتقصي الصحفي الرائع الذي قام به الأستاذ الزميل القذافي عبد المطلب ونشرته هذه الصحيفة، والذي جاء فيه الكثير المثير المفيد للدولة إذا أرادت أن تضع سياسة ذهبية تُثَمِّن الإيجابيات وتدرأ أو على الأقل تُقَلّل السلبيات.